الكتاب

بين نعمة العقل وإغراء الآلة .. بقلم: جواهر العامري

بقلم: جواهر العامري

في لحظة ما من الزمن، كانت عقولنا تحلق بعيدًا في عالم التأمل، كنا نطرح أسئلة عميقة عن الحياة باستخدام حدسنا البشري البسيط، لكن شيئًا ما تغير مع مرور الأيام، بدأنا نلجأ أكثر فأكثر إلى الآلات بحثًا عن إجابات، نسألها عن كل شيء وكأنها تملك الحقيقة المطلقة، أحيانًا أتساءل، أين ذهب ذلك الفضول الطبيعي الذي كان يضيء أفكارنا؟ لقد خفت صوت التأمل الداخلي تدريجيًا، أصبحنا نعتمد على الحلول الجاهزة بدلاً من البحث بأنفسنا.

في بعض الأحيان، أشعر أننا فقدنا جزءًا من فطرتنا البشرية، كأننا سلمنا مفاتيح تفكيرنا لتلك الخوارزميات التي تعمل ببرودة، الحياة أصبحت مختلفة، وأتساءل إن كنا ما زلنا نحتفظ بذلك البريق الإنساني في داخلنا.

لقد خلقنا الله تعالى وميّزنا بنعمة العقل، تلك النعمة التي جعلت الإنسان مكرمًا بين سائر المخلوقات، وحثّنا في مواضع كثيرة من القرآن الكريم على تفعيلها بالتفكر والتدبر. قال سبحانه:﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾، وقال أيضًا: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾،

وقوله عز وجل: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

العقل يشبه الجسد في حاجته للغذاء المستمر، لكن غذاء العقل ليس مجرد معلومات سطحية عابرة، إنه يحتاج لقراءة متأنية وتأمل عميق وحوار هادف؛ القرآن الكريم من أعظم مصادر تغذية العقل فهو يحثنا على التفكر في خلق الله وفي معاني وجودنا.

في زمننا الحالي أصبحت الأمور مختلفة، لم نعد نصبر على البحث الطويل أو نتقبل مشقة التجربة، مجرد سؤال بسيط نطرحه على برامج الذكاء الاصطناعي يعطينا إجابة فورية، هذا التقدم التقني مذهل بلا شك، لكنه يطرح تساؤلات مهمة، هل هذه السرعة في الحصول على المعلومة تفيدنا حقاً؟ أم أنها قد تقلل من قيمة الجهد الفكري الذي نبذله؟ قد نكون أمام مفارقة غريبة، حيث التقدم التقني يحمل بين طياته خطراً على عمق تفكيرنا وإنسانيتنا.

أصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على فعل أشياء مذهلة، لكنه في الوقت نفسه يجعلنا نعتمد عليه أكثر من اللازم، أحيانًا أشعر أننا فقدنا متعة البحث والاكتشاف بأنفسنا، لم يعد الناس يبذلون جهدًا في التفكير كما كانوا يفعلون من قبل، الإجابات السريعة أصبحت متاحة دائمًا، وهذا يجعلنا كسولين فكريًا.

الإبداع الحقيقي يحتاج إلى وقت وجهد، يحتاج إلى أسئلة محيرة وإلى شغف بالمعرفة، لكن الآن أصبحنا نستلم الأفكار جاهزة من الآلات، أخشى أن نفقد القدرة على التفكير النقدي، عندما تعطينا التكنولوجيا كل شيء مُعد مسبقًا، لماذا سنتعب أنفسنا في التفكير؟

في خضم هذا التطور التقني الكبير الذي نعيشه، يبرز سؤال يثير الفضول: هل نحن نختار بأنفسنا أن نصمت عقولنا؟ أم أننا ببساطة نستسلم لضجيج الآلات التي لا تتوقف عن العمل؟ لا يجب أن ننظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه عدو، ولا أن نخاف من تقدمه، في الحقيقة، يمكننا أن نستفيد منه كأداة مساعدة، وليس كبديل عن تفكيرنا الخاص، المهم أن نستخدمه بطريقة تثري إنسانيتنا، لا أن نسمح له بإيقاف عقولنا عن العمل، المعرفة الحقيقية ليست مسألة سرعة في الحصول على المعلومات بل هي تتعلق بمدى فهمنا العميق لها، فالمعرفة لا تأتي من مجرد استهلاك المحتوى، بل من خلال التفاعل معه والمشاركة فيه، ولكي نحافظ على حيوية عقولنا؛ يجب أن نعطيها الاهتمام الذي تستحقه، نغذيها بالعلم والمعرفة، ونحفزها بطرح الأسئلة، ونطورها من خلال التجارب العملية، هذا يشبه إلى حد كبير الطريقة التي نعتني بها بأجسادنا، عندما نحرص على تناول الأطعمة التي تقوي الذاكرة وتحسن التركيز، مثل الأطعمة الغنية بالأوميغا 3، والفواكه مثل الأفوكادو، والمكسرات بأنواعها.

في النهاية، الخطر الحقيقي للذكاء الاصطناعي ليس في قدراته التكنولوجية المتطورة، بل في تأثيره على العقول التي أصبحت كسولة، وعلى الغريزة الطبيعية للبحث والاستكشاف التي استبدلناها بالبحث عن إجابات جاهزة وسريعة، لذلك، يجب أن ننتبه جيداً حتى لا تفقد عقولنا حيويتها في عصر أصبحت فيه المعلومات متوفرة بكثرة، لكن الفهم العميق والتأمل الحقيقي والتفكير أصبح فيه قليلًا، وكما ذكر سقراط في مقولته الشهيرة “لا يمكنني أن أعلم أيّ أحدٍ أيّ شيء، كل ما يسعني فعله هو حثّهم على التفكير” فلا نجعل الآلة تفكر عنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى