عندما تتحول العدالة إلى عقوبة: كيف تُدار المؤسسات بعقلية اشتراكية

بقلم || فيصل بن عبدالعزيز الحربي – باحث دكتوراة تخطيط التعلم واقتصادياته
لا تعيش الرأسمالية والاشتراكية في نظريات الاقتصاد وحدها، بل تظهر داخل بيئة العمل بوصفهما عقليتين إداريتين تنعكسان في قرارات المدير وطريقة إدارته. ولا تكمن المشكلة في ضعف اللوائح أو غياب الأنظمة، بل في الفلسفة غير المعلنة التي تُدار بها المؤسسة؛ إذ تتشكل الثقافة التنظيمية فعليًا من هذه الفلسفة أكثر مما تتشكل من النصوص المكتوبة. وقد تميل الإدارة إلى عقلية تركّز على النتائج والأثر، أو إلى عقلية تقدّم التوازن والترضية، غير أن الإشكال الحقيقي يبدأ عندما يتحول التقييم من قياس الأداء إلى محاولة إرضاء الجميع على حساب الكفاءة.
المدير الذي ينطلق من منطق قائم على النتائج يعتمد مبدأ واضحًا: الأداء يُقاس بالأثر، والتقييم يُبنى على ما تحقق فعليًا. في هذا النموذج قد يشعر بعض الموظفين بالضغط، لكن المقاييس تكون معلنة، ويُمنح المتفوّق حقه دون فرض مساواة قسرية. في المقابل، يسعى المدير ذو العقلية الاشتراكية إلى تحقيق ما يسميه «العدالة» عبر تقليل الفوارق وتوزيع التقييمات وتجنّب التمايز داخل الفريق، فتتحول العدالة من معيار مهني إلى أداة لإدارة الرضا العام لا لقياس الاستحقاق. ومع محدودية الموارد والتقييمات المتميزة، تصبح محاولة إرضاء الجميع هدفًا غير قابل للتحقق، وينتهي الأمر غالبًا بإحباط المتفوّق دون تحقيق رضا حقيقي لدى الآخرين.
المشكلة الجوهرية في هذا النموذج أنه يخلط بين عدالة الفرص ومساواة النتائج. فالفرص حق للجميع، أما النتائج فمرتبطة بما قُدِّم فعليًا. وعندما يُتجاهل هذا الفرق، يتحول التميّز إلى عبء إداري يجب تسويته، ويُطلب من المتفوّق أن يتنازل ضمنيًا عن استحقاقه حفاظًا على الانسجام العام. عند هذه النقطة، تُفرَّغ عملية التقييم من مضمونها المهني، وتُقدَّم إدارة المشاعر على قياس الأداء.
ويظهر هذا المنطق بوضوح فيما يُعرف بـ«تدوير التقييم»، حيث لا يُمنح الموظف المتفوق التقييم المرتفع في كل مرة، ليس لتراجع أدائه، بل بدافع تدوير التقدير بين أفراد الفريق ضمن نطاق محدود من التقييمات المتميزة. في هذه الحالة، يتحول التقييم من أداة لقياس الأداء إلى أداة موازنة، يُكافأ فيها التناوب أكثر مما يُكافأ الاستحقاق.
وفي مراجعة أدبيات الإدارة، لا يوجد ما يُعرف بمفهوم «تدوير التقييم الوظيفي» بوصفه ممارسة مهنية معتمدة، فالتقييم في جوهره، أداة لتحسين الأداء لا لتجنّب الصراع. إذ يُبنى التقييم على الجدارة، فمهما تشابه الموظفون في تنفيذ المهام، تظل هناك معايير واضحة، ولكل معيار مؤشرات أدق، تُستخدم لقياس الفروق الفعلية بدقة. وبناءً على ذلك، يُمنح التقييم لمن يستحقه وفق هذه المؤشرات، حتى وإن تكرر استحقاق الشخص نفسه في كل مرة.
أخطر ما في هذا المسار أنه لا يعاقب التقصير، بل يعاقب التفوق بصمت. الموظف المتوسط يشعر بالأمان دون حاجة إلى تطوير حقيقي، بينما يدخل الموظف المتفوق في حالة إحباط تدريجي حين يكتشف أن الجهد الإضافي لا يُترجم إلى تقدير، وأن سقف التقييم فُرض مسبقًا لأسباب لا علاقة لها بالأداء. ومع الوقت تتحول بيئة العمل من مساحة لتحفيز النتائج إلى مساحة لإدارة التوازن النفسي، ويتعلم المتفوق الدرس الخطأ: أن الاجتهاد الزائد لا قيمة له، وأن منطقة الراحة هي الخيار الأفضل والأقل كلفة.
البيئات التنظيمية لا تحتاج إلى قسوة الرأسمالية ولا إلى اشتراكية قائمة على الترضية، بل إلى وضوح في المعايير، وعدالة في الفرص، وشجاعة في مكافأة الأثر الحقيقي. فالعدالة في بيئة العمل لا تعني أن يحصل الجميع على النتيجة نفسها، بل أن يحصل كل فرد على ما يستحقه وفق ما قدّم. وحين تُدار المؤسسات بعقلية تخشى التميّز أكثر مما تخشى التقصير، تتحول العدالة من قيمة تنظيمية إلى أداة تعيق التقدم بدل أن تدفعه، والمحكّ الحقيقي اليوم -كما يُقال- الميدان يا حميدان.


