الكتابالمقالات

الاتجار بالبشر في العصر الرقمي: كيف أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منصات للاستغلال؟ .. بقلم المحامي د. عبداللطيف الخرجي

أصبح العالم اليوم أكثر ترابطًا من أي وقت مضى بفضل التطورات الهائلة في التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، التي لم تعد تقتصر على التواصل والترفيه، بل امتدت لتشمل مجالات التجارة، التعليم، وحتى البحث عن فرص العمل. ومع ذلك، فإن هذه التطورات لم تكن إيجابية بالكامل، حيث وفرت المنصات الرقمية بيئة مثالية للجرائم العابرة للحدود، وعلى رأسها الاتجار بالبشر.

تشير التقارير الدولية إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أداة رئيسية في عمليات استدراج الضحايا واستغلالهم، حيث يعتمد المتاجرون بالبشر على المنصات الرقمية للإعلان عن “فرص عمل مغرية” أو لتسهيل عمليات البيع والشراء غير القانونية للعمالة، خاصة العمالة المنزلية. هذه الظاهرة أثارت قلقًا عالميًا، لا سيما مع تزايد الأدلة على استخدام الإنترنت كوسيلة للترويج لهذه الأنشطة.

وفي الوقت الذي تواجه فيه العديد من الدول صعوبة في التعامل مع هذه المشكلة، اتخذت المملكة العربية السعودية إجراءات جادة لتخفيف القيود التي قد تؤدي إلى استغلال العمالة، من خلال تعديل نظام الكفالة وتعزيز حرية التنقل بين الوظائف. فكيف أصبح الإنترنت أداة للاتجار بالبشر؟ وما هي الجهود المبذولة لمكافحة هذه الظاهرة؟

وسائل التواصل الاجتماعي: منصات غير مرصودة للاتجار بالبشر

تكشف تقارير حقوقية أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد منصات تواصل اجتماعي، بل قد تتحول إلى سوق افتراضي لبيع واستغلال البشر. حيث يتم عبر هذه المنصات استدراج الضحايا بطرق مختلفة، أبرزها:

  1. إعلانات الوظائف الوهمية: يتم استهداف الأشخاص الباحثين عن فرص عمل، خاصة في الدول ذات الأوضاع الاقتصادية الصعبة، بعروض تبدو مغرية، ولكنها تنتهي غالبًا بوقوعهم في شبكات الاتجار بالبشر.
  2. مجموعات مغلقة على منصات التواصل: توجد العديد من المجموعات السرية على فيسبوك وواتساب حيث يتم تداول عروض “نقل خدمات العمالة” بأسلوب غير قانوني.
  3. استخدام المصطلحات القانونية لإخفاء الجرائم: في بعض المناطق، يتم وصف بيع العمالة المنزلية بأنه مجرد “تنازل عن الكفالة”، وهو ما يسمح بتمرير هذه الأنشطة دون رقابة قانونية فعالة.

وفقًا لأبحاث دولية، فإن الضعف في الرقابة على المحتوى الرقمي بلغات غير الإنجليزية هو أحد الأسباب الرئيسية التي تسمح باستمرار هذه الجرائم، حيث أن الذكاء الاصطناعي المستخدم في مراقبة المحتوى غالبًا ما يكون غير مهيأ لكشف هذه الأنشطة بفعالية.

إصلاحات نظام الكفالة في المملكة العربية السعودية: نموذج يُحتذى به

في ظل تزايد الانتقادات الدولية حول بعض الممارسات المتعلقة بالعمالة الوافدة، بادرت المملكة العربية السعودية بإجراء إصلاحات جوهرية تهدف إلى تعزيز حقوق العمال وتقليل احتمالات استغلالهم. فقد شهد عام 2021 إطلاق مبادرة تحسين العلاقة التعاقدية، والتي جاءت استجابة لتوصيات المنظمات الحقوقية والدولية.

أبرز التعديلات التي أجرتها المملكة العربية السعودية:

  1. حرية تغيير الوظيفة: أصبح بإمكان العامل الوافد الانتقال إلى وظيفة جديدة دون الحاجة إلى موافقة صاحب العمل السابق، ما يحدّ من حالات الاحتكار والاستغلال.
  2. حرية السفر والتنقل: أُعطي العمال الحق في مغادرة المملكة والعودة إليها دون الحاجة إلى إذن مسبق من الكفيل، وهو تغيير جوهري يقلل من إمكانية احتجاز العمال أو استغلالهم.
  3. عقود عمل إلكترونية موثوقة: تم فرض نظام جديد يضمن توثيق العقود إلكترونيًا، مما يعزز الشفافية في العلاقة بين العامل وصاحب العمل.

حظيت هذه الإصلاحات بإشادة واسعة، حيث اعتُبرت خطوة مهمة نحو تحسين بيئة العمل وتعزيز حقوق العمالة، وهو ما يمكن أن يُسهم في تقليل حالات استغلال العمال تحت غطاء أنظمة تشغيل غير مرنة.

ضعف الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي: من المسؤول؟

رغم الأدلة المتزايدة على أن منصات التواصل الاجتماعي تُستخدم بشكل منهجي في عمليات الاتجار بالبشر، إلا أن الشركات المالكة لهذه المنصات لا تزال تتعامل مع هذه القضية بقدر كبير من التراخي.

ففي عام 2019، كشفت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عن سوق إلكتروني غير قانوني لبيع العمالة المنزلية في بعض دول الشرق الأوسط عبر إنستغرام وفيسبوك. ورغم أن الشركات المالكة لهذه المنصات تعهدت بإزالة هذا المحتوى، إلا أن تحقيقات لاحقة أظهرت أن الإعلانات المشابهة لا تزال متاحة.

والمشكلة الرئيسية تكمن في القوانين التي تحمي شركات التكنولوجيا من المسؤولية القانونية عن المحتوى المنشور عبر منصاتها. فعلى سبيل المثال، فإن قانون “حماية حرية التعبير عبر الإنترنت” في الولايات المتحدة يمنح هذه الشركات حصانة قانونية من المساءلة عن المحتوى الذي ينشره المستخدمون، مما يجعل من الصعب فرض إجراءات صارمة لمراقبة المحتوى المتعلق بالاتجار بالبشر.

الحلول الممكنة لمواجهة الظاهرة

للحد من تفشي الاتجار بالبشر عبر الإنترنت، يجب تبني إجراءات صارمة تشمل الحكومات، الشركات التقنية، والمنظمات الحقوقية، ومن أبرز الحلول المقترحة:

  1. فرض رقابة أكثر صرامة على وسائل التواصل الاجتماعي: يجب أن تتحمل الشركات التقنية مسؤولية أكبر في مراقبة المحتوى المنشور على منصاتها وإزالة أي محتوى مرتبط بالاتجار بالبشر بشكل فوري.
  2. تعزيز القوانين الدولية لمكافحة الاتجار بالبشر: ينبغي تعديل القوانين بحيث يتم تحميل الشركات الرقمية جزءًا من المسؤولية عن الجرائم التي تتم عبر منصاتها.
  3. مواصلة تطوير سياسات حماية العمالة: كما فعلت المملكة العربية السعودية، يجب أن تحذو دول أخرى حذوها في تحسين بيئة العمل للعمالة الوافدة وتقليل احتمالات استغلالهم.
  4. إطلاق حملات توعوية موجهة للفئات المستهدفة: التوعية بمخاطر الإعلانات الوهمية وفرص العمل المزيفة يمكن أن تحد من وقوع المزيد من الضحايا.

خاتمة

يعد الاتجار بالبشر عبر الإنترنت أحد أكثر التحديات تعقيدًا في العصر الرقمي، حيث ساهم التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي في تسهيل عمليات الاستغلال على نطاق واسع. وكما أوضحنا في هذا المقال، فإن منصات التواصل الاجتماعي أصبحت أدوات رئيسية تُستخدم في عمليات الاتجار بالبشر، سواء من خلال استدراج الضحايا بوعود كاذبة بالعمل، أو من خلال توفير مساحات غير خاضعة للرقابة تُستخدم لتسويق البشر تحت مسميات قانونية زائفة مثل “نقل الخدمات” أو “التنازل”.

وقد سلطنا الضوء على الإصلاحات الجوهرية التي قامت بها المملكة العربية السعودية، والتي مثلت خطوة متقدمة نحو تحسين أوضاع العمالة الوافدة والحد من أي ممارسات استغلالية. فمن خلال مبادرة تحسين العلاقة التعاقدية، أصبح للعمال مزيد من الحرية في تغيير وظائفهم والتنقل بحرية داخل البلاد وخارجها، وهو ما ساهم في تقليل احتمالات استغلالهم تحت مظلة أنظمة عمل صارمة. هذه الإصلاحات لم تقتصر على حقوق التنقل فقط، بل شملت أيضًا توثيق العقود إلكترونيًا لتعزيز الشفافية وضمان الحقوق القانونية للعمالة.

في المقابل، لا تزال شركات التواصل الاجتماعي متأخرة في التعامل مع هذه القضية، حيث أثبتت التقارير أن هذه الشركات لم تتخذ إجراءات كافية للحد من استخدام منصاتها في عمليات الاتجار بالبشر. وتكمن المشكلة الأساسية في القوانين التي تمنح هذه الشركات حصانة قانونية من المساءلة عن المحتوى الذي يُنشر عبرها، مما يجعل من الصعب إجبارها على تطبيق معايير أكثر صرامة في مراقبة أنشطتها.

مع استمرار التكنولوجيا في التطور، فإن استغلالها لأغراض غير مشروعة مثل الاتجار بالبشر سيظل يشكل تحديًا عالميًا ما لم يتم وضع حلول فعالة للحد من هذه الظاهرة. فبينما تسعى بعض الدول إلى تحسين بيئة العمل للحد من استغلال العمالة، لا يزال هناك الكثير من العمل المطلوب على المستوى الدولي لضمان بيئة رقمية أكثر أمانًا وعدالة.

ويبقى التساؤل الأهم: هل ستتحمل شركات التواصل الاجتماعي مسؤوليتها الأخلاقية في مكافحة هذه الظاهرة، أم ستظل تراهن على الأرباح متجاهلة التداعيات الإنسانية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ستحدد مستقبل مكافحة الاتجار بالبشر في العالم الرقمي.

بقلم المحامي د. عبداللطيف الخرجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى