الجبيل الصناعية.. أنموذج حضاري في صناعة الوعي المروري .. بقلم: محمد حمدان الذبياني

بقلم: محمد حمدان الذبياني – كاتب سعودي
السلامة المرورية لم تعد ترفًا ولا تفصيلًا ثانويًا، بل قضية وجودية تمس حياة الإنسان يوميًا، فالطريق ليس مجرد أسفلت وسيارات، بل حياة تمضي أو تُفقد في لحظة غفلة، وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 1.19 مليون إنسان يفقدون حياتهم سنويًا بسبب الحوادث المرورية، فيما يخلف هذا النزيف ملايين الإصابات والخسائر، لتظل السلامة المرورية قضية إنسانية قبل أن تكون مجرد إحصائية.
في المملكة العربية السعودية، أثمرت الاستراتيجيات الوطنية المتكاملة عن تحولات ملموسة في مستوى السلامة المرورية، حيث أظهرت الإحصاءات تراجعًا لافتًا في معدلات الوفيات والإصابات خلال السنوات الأخيرة. ففي عام 2019 وحده سُجّل أكثر من 287 ألف حادث مروري أسفر عن 5,754 وفاة وما يزيد على 32 ألف إصابة. ومع ذلك، فقد أثمرت السياسات المرورية المتطورة عن انخفاض ملحوظ؛ إذ تراجعت نسبة الوفيات بنسبة 35٪ خلال الفترة من 2015 إلى 2019، ووصل المعدل من 28 وفاة لكل 100,000 نسمة في 2016 إلى نحو 13.6 وفاة في 2023، وهو انخفاض تجاوز 54٪.
وتعززت هذه النتائج إيجابًا في عام 2024، حيث أعلنت وزارة الداخلية أن وفيات الحوادث المرورية انخفضت بنسبة تقارب 25.9٪ مقارنة بعام 2023، كما شهدت الطرق السريعة تراجعًا لافتًا في معدل الوفيات وصل إلى 50٪ بفضل التشديد على أنظمة السلامة وزيادة الرقابة الميدانية ،هذه المؤشرات الإيجابية تعكس بوضوح أن المملكة تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق أهدافها في جعل الطرق أكثر أمانًا وحماية للأرواح.
وتُعد مدينة الجبيل الصناعية أنموذجًا حضاريًا يعكس كيف يمكن للتخطيط الحديث أن يضع الإنسان في قلب التنمية،فإلى جانب هندسة الطرق المدروسة بعناية، والتقاطعات المصممة بوعي، والأنظمة الذكية، تأتي الاستجابة السريعة كأحد الأعمدة الجوهرية في منظومة السلامة المرورية،إذ تعتمد المدينة على منظومة متكاملة من التنسيق بين الهيئة الملكية ممثلة في إدارة الأمن الصناعي والسلامة، ومرور محافظة الجبيل، والدفاع المدني، والخدمات الطبية.
الأمن الصناعي هنا يمثل خط الميدان الأول بحضوره المنتشر في أرجاء المدينة، وقدرته على الرصد المباشر والاستجابة السريعة، إضافة إلى دوره المهم في تنظيم الحركة المرورية وتأمين المواقع حتى وصول بقية الجهات الداعمة،ويتولى المرور مهام مكملة تعزز هذا الجهد، من خلال إدارة الحركة على الطرق الرئيسة وتنظيمها خارج نطاق الحوادث بما يضمن انسيابية السير على أوسع نطاق،ويأتي دور الدفاع المدني في التدخل السريع للتعامل مع المواقف التي تتطلب إنقاذًا متخصصًا أو السيطرة على أخطار الطوارئ، فيما تضطلع الخدمات الصحية بمهمتها في إسعاف المصابين ونقلهم على الفور إلى المستشفيات.
ودائمًا ما يصاحب الموسم الدراسي هاجس التنقل وما يحمله من مخاطر الطريق، إلا أن الهيئة الملكية جعلت من هذا الملف أولوية، فطورت منظومة النقل المدرسي المطوّر، بحافلات حديثة مجهزة بأعلى معايير السلامة والتقنيات الذكية لمتابعة حركة الطلاب،لقد أدركت الهيئة أن حماية النشء تبدأ من لحظة خروجهم من منازلهم وحتى عودتهم سالمين، فجعلت من النقل المدرسي حلقة متكاملة في سلسلة جهودها الرامية لتعزيز السلامة المرورية في المدينة.
ولا يقتصر نهج الهيئة الملكية داخل مدينة الجبيل الصناعية في تعزيز السلامة المرورية على الطرق الرئيسة، بل يمتد إلى قلب الأحياء السكنية، حيث أرست منظومة متكاملة تضمن انسيابية الحركة وتحمي السكان من أي مهددات،فقد تم التصدي لظاهرة العمالة السائبة التي قد تشكل خطرًا على مستخدمي الطريق أو حتى تهديدًا أمنيًا، كما يجري العمل بشكل متواصل على رفع المركبات المهملة التي قد تتسبب في حوادث مفاجئة أو تعيق حركة المرور، فضلًا عن العناية المستمرة بـ نظافة الشوارع والأرصفة لتبقى صالحة وآمنة للمشاة والمركبات معًا. هذه التفاصيل الصغيرة تصنع في مجملها فارقًا كبيرًا، لأنها تعكس صورة حضارية وتجعل من السلامة أسلوب حياة يومي داخل الأحياء قبل أن تكون مجرد لائحة أو نظامًا.
كما أن الحملات التوعوية المستمرة تشكل ركيزة أساسية في معادلة الأمان، إذ تسهم في غرس ثقافة السلامة وتحويلها إلى سلوك يومي راسخ،فقد حرصت الهيئة الملكية بالتعاون مع المرور والجهات التعليمية والأمنية على إطلاق برامج وأنشطة متنوعة، شملت المدارس والكليات وأماكن العمل، إضافة إلى الاستفادة من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي،واستمرارية هذه الحملات ليست نشاطًا عابرًا، بل هي استثمار طويل الأمد في وعي المجتمع، ينعكس مباشرة على خفض معدلات الحوادث وتعزيز البيئة الحضرية الآمنة.
هذا التكامل بين هندسة الطرق الحديثة، والوعي المجتمعي، والدور الأمني والمروري، والمنظومات الصحية والإسعافية، صاغ لوحة متكاملة للسلامة في الجبيل الصناعية؛ لوحة تتناغم فيها الجهود لتجعل من الطرق مسارات للحياة، ومن المدينة أنموذجًا حضاريًا يحتذى به.