الزواج في الإسلام: فلسفة إنسانية تتجاوز الماديات .. بقلم المحامي د. عبداللطيف الخرجي

يُعدّ الزواج في الإسلام نظامًا اجتماعيًا متكاملًا يُبنى على أسس إنسانية، حيث يتجاوز المفهوم المادي إلى قيم أسمى، كالمودة والرحمة والتكريم. ومن أبرز مظاهر هذا التوجه الإنساني في الشريعة الإسلامية هو النظر إلى الزواج ليس كمعاملة تجارية، بل كرباط مقدس يهدف إلى تحقيق السكينة والاستقرار لكل من الزوجين. فالإسلام لم يجعل المهر ثمنًا للمرأة، بل هو تكريم لها، كما فرض على الرجل النفقة باعتبارها مسؤولية واجبة لا ترتبط بخدمة الزوجة أو رعايتها.
المهر: تكريم لا ثمن
يُعدّ المهر في الإسلام حقًا خالصًا للمرأة، يُقدّمه الزوج كدليل على صدقه ورغبته في بناء علاقة قائمة على الاحترام والتقدير. وهذا المهر ليس ثمنًا للمرأة كما هو الحال في بعض الثقافات التي تعتبره نوعًا من البيع، وإنما هو نوع من التكريم الذي يُعبر عن مكانة المرأة وحقوقها في العلاقة الزوجية. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
“وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً“ (النساء: 4)، أي أنه يُعطى للمرأة كعطية وهبة خالصة من الزوج، وليس مقابلًا لأي خدمة أو واجب عليها.
وبذلك، فإن الإسلام لم يضع أي شرط يُجبر المرأة على تقديم أي شيء في مقابل هذا المهر، بل جعلها حرة في التصرف فيه كما تشاء. ويُظهر هذا التشريع كيف أن الزواج الإسلامي يُقدّم الاعتبارات الإنسانية على المصالح المالية، ويُرسي دعائم العدل بين الجنسين.
النفقة: مسؤولية وليست تبادل مصالح
من المبادئ الأساسية في الزواج الإسلامي أن النفقة واجب على الزوج، بغض النظر عن الوضع المالي للزوجة أو مستوى مشاركتها في الأعمال المنزلية. فحتى لو كانت الزوجة غنية أو عاملة، تظل النفقة واجبًا على الزوج، لأنها ليست مقابل عملٍ تقوم به الزوجة، وإنما هي جزء من التزام الرجل بتوفير حياة كريمة لأسرته.
وقد أكد الإسلام على ذلك في قوله تعالى:
“الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ“ (النساء: 34).
فهذا يوضح أن القوامة ليست سلطة تعسفية، بل هي مسؤولية مالية واجتماعية تتطلب من الرجل توفير الحماية والرعاية لأسرته. كما أن هذا التشريع يهدف إلى ضمان الاستقرار الأسري، بحيث لا تشعر المرأة بأنها مضطرة لتحمل أعباء مالية، مما يعزز روح التعاون والتكامل بين الزوجين.
المودة والرحمة: أسس العلاقة الزوجية
يضع الإسلام المودة والرحمة والسكن في قلب العلاقة الزوجية، حيث لا يكون الزواج مجرد التقاء جسدي، بل علاقة روحية مبنية على التفاهم والتعاون. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
“وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ“ (الروم: 21).
فهذا النص القرآني يرسخ مبدأ أن الزواج ليس مجرد عقد قانوني، بل هو شراكة قائمة على التفاهم والاحترام المتبادل. وتُشير “المودة” إلى الحب والتقارب العاطفي بين الزوجين، بينما تعبّر “الرحمة” عن الاستعداد للتضحية والتسامح والتعاون، مما يجعل العلاقة أكثر قوة واستدامة.
الفلسفة الشاملة للزواج الإسلامي
يتميز الزواج في الإسلام بنظرة متوازنة بين الحقوق والواجبات، حيث لا يتم تقييم العلاقة الزوجية على أسس مادية بحتة، بل على قيم معنوية وروحية. فعلى عكس بعض الثقافات التي قد ترى الزواج وسيلة لتحقيق مكاسب مالية أو اجتماعية، يرسخ الإسلام مفهوم الأسرة كوحدة تقوم على الحب والتكامل، وليس على المصالح المادية.
وفي هذا الإطار، يمنح الإسلام المرأة حقوقها كاملة، من خلال التشريعات التي تضمن لها حياة كريمة داخل الزواج. فهي ليست مجبرة على القيام بأعمال منزلية أو تحمل أعباء مالية، بل يتم ذلك في إطار التفاهم والتعاون، وليس كواجب مفروض عليها. كما أن الرجل يتحمل مسؤولياته باعتباره القائد الذي يسعى لتوفير الأمان والرعاية لأسرته، لا كسلطة متحكمة، بل كشريك يسعى لتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات.
الخاتمة
يتجلى في تعاليم الإسلام أن الزواج ليس مجرد رابطة قانونية، بل هو ميثاق إنساني يهدف إلى تحقيق السعادة والاستقرار لكل من الزوجين. فالمهر تكريم وليس ثمنًا، والنفقة مسؤولية وليست مصلحة، والمودة والرحمة هما الركيزتان الأساسيتان للعلاقة الزوجية. ومن خلال هذه القيم، يقدم الإسلام نموذجًا فريدًا للزواج، يجمع بين الحقوق والواجبات في إطار من العدل والمساواة، مما يجعله علاقة إنسانية قائمة على الاحترام والتقدير المتبادل.
بقلم المحامي د. عبداللطيف الخرجي
أستاذ القانون في كليات الأصالة – الدمام