الكتاب

السعودية في اليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالأشخاص: رؤية تضع الكرامة أولًا .. بقلم/ المحامي د. عبداللطيف الخرجي

في الثلاثين من يوليو من كل عام، يتجدد التذكير العالمي بخطورة جريمة الاتجار بالأشخاص، هذه الجريمة المنظمة التي لا تزال تمثل انتهاكًا صارخًا لكرامة الإنسان، وتستهدف الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع، كالنساء، والأطفال، والعمالة المهاجرة، وتظهر اليوم في صور متعددة أكثر تعقيدًا من ذي قبل، فبعد أن كانت تُمارس في الخفاء، أصبحت تُدار باستخدام أدوات العصر الرقمي في وضح النهار، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات المحادثة، ومنصات الألعاب الإلكترونية، تحت غطاء وهمي من فرص العمل أو العلاقات الشخصية أو العروض المغرية، ولعل أخطر ما في الأمر أن بعض المهربين لا يكونون غرباء، بل من داخل دائرة الضحية، كأقارب أو معارف، مما يعقد عملية الكشف والحماية.

وفي هذا الإطار، أكد المحامي الدكتور عبداللطيف الخرجي أن الاتجار بالأشخاص يمثل تحديًا حقوقيًا وأمنيًا عالميًا، وأن المملكة العربية السعودية قطعت أشواطًا كبيرة في مواجهته، من خلال منظومة قانونية ومؤسسية متكاملة، تنطلق من مبادئ الشريعة الإسلامية وتتناغم مع المعايير الدولية، إذ أصدرت المملكة نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص الذي يُعد حجر الأساس في التصدي لهذه الجريمة، والذي يُجرّم كافة أشكال الاستغلال، بما في ذلك العمل القسري، والاستغلال الجنسي، والتسول المنظم، والاتجار بالأعضاء.

كما نص النظام على حماية الضحايا وضمان حقوقهم القانونية والإنسانية، وقد تُوّج هذا النظام بتشكيل اللجنة الوطنية لمكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص بقرار مجلس الوزراء رقم (244) وتاريخ 20/7/1430هـ، والتي تتبع هيئة حقوق الإنسان، وتضطلع بمهام تنسيق السياسات، وتفعيل الالتزامات الدولية، ودعم التعاون المشترك مع الجهات المحلية والدولية.

ولم تكتف المملكة بإصدار النظام وتشكيل اللجنة، بل اعتمدت “الخطة الوطنية لمكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص” التي تمثل إطارًا استراتيجيًا شاملًا يحدد أدوار الجهات ذات العلاقة في مجالات الوقاية، والحماية، والمساءلة، وتقديم الدعم للضحايا.

ومن أبرز الأنظمة الداعمة لهذه الجهود: النظام الأساسي للحكم، ونظام العمل، ونظام حماية الطفل، ونظام الحماية من الإيذاء، ونظام مكافحة جرائم المعلوماتية، ونظام مكافحة غسل الأموال، إضافة إلى لائحة عمال الخدمة المنزلية، وقواعد ممارسة نشاط الاستقدام، ونظام التأمين ضد التعطل عن العمل، حيث تساهم هذه الأنظمة مجتمعة في بناء مظلة حماية متكاملة تعزز من الأمان الاجتماعي وتُغلق الثغرات التنظيمية التي قد تُستغل في الاتجار.

كما أطلقت وزارة الداخلية، تنفيذًا لتوجيهات القيادة الرشيدة، الإدارة العامة للأمن المجتمعي ومكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص، والتي تُعنى بمكافحة الجرائم التي تمس الحريات والحقوق الشخصية، وترتبط بالمديرية العامة للأمن العام، بما يعزز التكامل المؤسسي ويوحد الجهود تحت مظلة واحدة، وفي سياق رؤية المملكة 2030، برزت مكافحة الاتجار بالأشخاص كأولوية وطنية ترتبط بمحاور متعددة، منها تعزيز العدالة، وصون الكرامة الإنسانية، وتمكين الفئات الضعيفة، وتحديث الأنظمة بما يتوافق مع أهداف التنمية المستدامة، لا سيما الهدف الثامن (العمل اللائق والنمو الاقتصادي)، والهدف السادس عشر (السلام والعدالة والمؤسسات القوية).

كما تنشط المملكة في مجالات التوعية العامة، وتدريب العاملين في إنفاذ القانون، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا، مع التأكيد المستمر على أهمية مشاركة المجتمع في كشف المؤشرات، مثل وجود شخص يخضع للسيطرة أو لا يستطيع التحدث بحرية أو يظهر عليه الخوف أو العزلة، وتُعد حملات التوعية وحثّ أولياء الأمور على الحوار مع أبنائهم حول السلامة الرقمية جزءًا من النهج الوقائي الذي تتبناه الدولة، إلى جانب الترويج لاستخدام الرقم الموحد للبلاغات (19922) للإبلاغ عن أي حالة اشتباه.

وفي ضوء كل ما سبق، يتجلى التزام المملكة ليس فقط كموقف رسمي، بل كقناعة وطنية راسخة بأن الإنسان ليس سلعة، وأن صيانة كرامته واجب لا مساومة فيه، فالمملكة اليوم لا تكتفي بمجاراة الجهود العالمية، بل تُسهم في تشكيلها، وتبني نموذجًا رائدًا في مكافحتها لهذه الجريمة بأبعادها القانونية، الأمنية، الحقوقية، والمجتمعية.

بقلم / المحامي د·عبداللطيف الخرجي

استاذ القانون في كليات الاصالة الأهلية

وعضو الجمعية العمومية في جمعية ابتسام لمكافحة الاتجار بالأشخاص

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى