حين أُصيبت الطبيبة بداء العَظَمة وتعافى الطب بإنسانية رئيس القسم .. بقلم: محمد حمدان الذبياني

بقلم: محمد حمدان الذبياني
في عالمٍ يُفترض أن يكون الطب فيه أسمى المهن وأرحمها، قد يختبئ المرض أحيانًا لا في الأجساد، بل خلف المعاطف البيضاء ليست كل يدٍ تمسك السماعة قادرة على سماع وجع الإنسان، ولا كل من ناديناه بـ «دكتور» يعرف أن الكلمة لا تُقال لرفع المقام، بل لاستدعاء الرحمة.
في إحدى المنشآت الصحية المميزة تحوّل موقف بسيط إلى مرآة كشفت التحدي الحقيقي أمام تطور الطب ، كيف نعالج داء العَظَمة حين يصيب بعض من يظن أن المهنة سلطة لا رسالة، وهنا تبدأ الحكاية حيث أنقذ رئيس القسم الموقف وأعاد للطب نبضه الإنساني قبل أن يفقده تمامًا كانت القصة كما رواها صديقي، حين ذهب بأمه إلى المستشفى بعد أن أنهكتها نزلة برد بسيطة لا أكثر، وكان يريد طمأنة لا معجزة، لكن الطبيبة قالت بثقة لا يساندها دفء: «أنت تعلم أن مرضها المزمن لا علاج له»، ثم رفعت رأسها وأضافت بنبرةٍ لا تخلو من استعلاء: «أنا من يقرر وليس غيري، الجميع هنا تحت مسؤوليتي، وتقول لي دكتورة قبل الاسم».
كانت الجمل تخرج باردة لكنها تُشعل شيئًا في القلب، ليس لأنها قاسية في معناها، بل لأنها قاسية في توقيتها. فالمريض لا يسمع الكلمة بمعناها الطبي بل بوقعها النفسي، والحديث مع من يتألم ليس امتحان سلطة، بل امتحان إنسانية أدرك صديقي أن والدته لم تكن بحاجة إلى دواء بقدر حاجتها إلى كلمة تُطمئنها، وحين شعر أن القرار بخروجها قبل استقرارها متعجل ذهب إلى علاقات المرضى بهدوء ليطلب تحويلها إلى طبيب آخر أكثر دراية بحالتها المزمنة، لكن الطبيبة رأت في ذلك تمردًا على سلطتها فاستشاطت غضبًا ورفعت صوتها كأنها تحرس عرشًا لا مريضًا.
لم تكن تدافع عن قرارها الطبي بقدر ما كانت تدافع عن كبريائها، وهنا تحول المشهد من حوارٍ علاجي إلى صراعٍ شخصي، ومن طبٍ إلى استعراضٍ للهيبة، تدخلت علاقات المرضى وأدارت الموقف بحكمة، ثم استُدعي رئيس القسم الذي دخل بهدوءٍ يشبه دخول الضوء إلى غرفةٍ مزدحمة بالظلال، صافح الجميع بابتسامة صادقة واقترب من الأم وقال بصوتٍ ناعمٍ فيه من الطمأنينة ما يفوق كل العلاجات: «لا تقلقي يا أمّي، العارض بسيط وستتحسنين قريبًا بإذن الله، المرض المزمن تحت السيطرة وكل شيء على ما يرام».
في تلك اللحظة فقط تنفست الأم بارتياح وعاد الأمان إلى وجهها، وأدرك صديقي أن كلمة واحدة صادقة قادرة على أن تُعيد ترتيب الخوف في القلوب، وأن الطبيب الحقيقي هو من يُداوي الإنسان قبل أن يُداوي الجسد، قال لي صديقي بعد أن خرج من المستشفى: «اكتشفت أن المريض الحقيقي لم يكن على السرير بل خلف المكتب»، وابتسم ثم أكمل: «إنه داء العَظَمة، ذلك المرض الذي لا يُكتشف في التحاليل.
لكنه يُرى في العيون حين تتحدث بثقةٍ لا تعرف التواضع» إنه داء يجعل بعض الأطباء يظنون أن اللقب أكبر من الإنسان، وأن العلم يمنحهم سلطة على الناس لا مسؤولية تجاههم هو مرض لا يُرى لكنه يفسد كل شيء، يحول الكلمة إلى سيف، والنصيحة إلى أمر، والمريض إلى رقم ولعل أخطر ما في هذا الداء أنه يُعدي، فإذا أصيب به أحد قادة الفريق الطبي انتقل إلى من حوله بلا وعي، فتصبح الممرضة أكثر خشونة، والموظف أقل رحمة، وتتحول المنشأة الصحية إلى مؤسسة بلا دفء، لكن ما فعله رئيس القسم أعاد الأمل في أن الطب ما زال حيًا، فقد جلس كقائدٍ لا يريد أن ينتصر لأحد، بل أن ينتصر للقيم، أعاد التوازن إلى المكان وأعاد للرداء الأبيض معناه، المنشآت الصحية المتميزة ليست التي تمتلك أحدث الأجهزة، بل التي تمتلك أطباء يملكون ضمائر يقظة، فالأجهزة ترصد النبض.
لكن الإنسان وحده يسمع ارتجاف الخوف في صوت المريض حين يسأل: «هل سأكون بخير؟»،وربما لا نستطيع أن نختار دائمًا الطبيب المثالي، لكن يمكن لكل منشأة أن تخلق بيئة لا تسمح لداء العَظَمة أن يعيش فيها طويلًا، بيئة تُذكّر كل من يرتدي الرداء الأبيض أن كلمة «دكتور» ليست تاجًا بل أمانة نُطقت بقلوبٍ خائفةٍ وثقت به فالطب ليس علمًا فقط، إنه مزيج من المعرفة والرحمة والتواضع، وإذا اختلّ أحدها تحولت المهنة من شفاءٍ إلى استعلاء، ومن رسالةٍ إلى تجارة، ومن إنسانٍ إلى لقب في النهاية قد يمرض الطبيب بالغرور لكن الإنسانية دائمًا تملك الدواء، فحين يمرض الطب تتعافى المنشآت برجلٍ واحدٍ يعرف أن القيادة ليست امتلاك القرار بل امتلاك الرحمة، وأن أعظم علاجٍ يمكن أن يقدمه الطبيب لمريضه هو أن يراه إنسانًا قبل أن يراه حالة .
 
				 
					 
					
