حين يُطفئ الكِبَرُ ضوء الحكمة .. بقلم | سامي آل مرزوق

بقلم | سامي آل مرزوق
في خريف العمر، حين تهدأ العاصفة ويخفت بريق الصراعات، ينتظر الناس من كبار السن أن يكونوا ضوءًا يهدي، وصوتاً يعلم، ومثالًا يُحتذى في العدل والرحمة. فالسبعون وما بعدها ليست مجرد رقمٍ في تقويم الحياة، بل هي مرحلة النضج الأعلى، حيث يصفو العقل من طيش الشباب، وتلين النفس بعد قسوتها، ويغدو الإنسان أقرب إلى الله وأكثر وعيًا بمعاني الحق والإنصاف.
لكن العجب حين يتحول هذا العمر الطويل إلى مرآةٍ مشوهة، لا تعكس الحكمة بل الغرور، ولا تُثمر الرحمة بل التعالي. ترى بعضهم وقد عاش دهوراً في العمل الاجتماعي والعطاء العام، فإذا به في نهاية الطريق ينقلب على ما بناه، يوظف مكانته لتصفية حساباتٍ شخصية، ويستخدم معارفه لإلغاء الآخرين، ناسياً أن كل مقامٍ في الدنيا زائل، وأن الله مطلعٌ على السرائر.
المؤلم أن ترى هذا الرجل، الذي يُفترض أن يكون ناصحاً أميناً، يرتدي عباءة الوقار في المجالس العامة، فيبدو وديعاً، هادئاً، متحدثاً عن الفضيلة ولإصلاح، بينما في الخفاء يُمارس عكس ما يقول.
يحارب من يخالفه، ويهمش من ينافسه، ويظلم من لا يخضع لنفوذه، متجاهلاً أن الكِبَر ليس رخصة لتجاوز حدود الله، وأن الحكمة لا تُقاس بعدد السنوات بل بنقاء السريرة.
هنا تكمن المعضلة الأخلاقية التي تهز الوجدان، كيف يُمكن لإنسان بلغ من العمل عتياً، أن يخاصم ضميره بهذا الشكل، كيف تتحول الخبرة التي كان يُنتظر أن تكون بلسماً إلى سلاح؟ وأين يذهب الخوف من الله حين يُصبح النفوذ وسيلة للبطش لا للإصلاح؟ إن الوقار لا يُكتسب بالشيب ولا بالهيئة، بل بالفعل. والكبير الذي يستخدم مكانته لإيذاء الآخرين، يسئ إلى صورته وإلى معنى الشيخوخة نفسه.
قال تعالى في محكم كتابه الحكيم بسورة الأعراف آية 85 ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، الآية تحذر من بخس الناس حقوقهم، وتضع حداً واضحاً بين مكانة الإنسان واستغلالها في الفساد.
الحكمة في معناها الأصيل هي صوت الضمير حين يتجاوز الإنسان ذاته، وحين يفقد الكبير هذه البوصلة، يصبح أكثر خطراً من الجاهل، لأن الناس تُصدق كلمته وتُحسن الظن بأفعاله.
كم من رجلٍ حمل في شبابه هم الإصلاح، ثم إذا كبر أفسد أكثر مما أصلح، وكم من شخصيةٍ اجتماعيةٍ أحترمها الناس عقوداً، فإذا هم يكتشفون أن ما كان يبدو اتزاناً، لم يكن سوى مظهرٍ، يخفي نزعة السيطرة والغرور.
هنا لا تكون المشكلة في الكِبَر ذاته، بل القلوب التي لم تنضج رغم السنين، فالعمر لا يطهر النفس تلقائياً، بل يختبرها، والسنوات الطويلة لا تصنع التُقى، بل تكشفه.
يبلغ الإنسان في السبعين أو الخامسة والسبعين مرحلة يفترض أن تكون أقرب ما تكون إلى الصفح، والتجرد من الأهواء. لكنه حين يُصر على خصومة الأخرين، ويتدخل في شؤونهم لإضعافهم، أو تشويههم، فإنه يُعلن إفلاسه الأخلاقي، ويكشف زيف حكمته.
إن من يعيش عمراً طويلاً ثم يختار أن يختمه بالظلم، كمن يهدم بيته في آخر لبنةٍ منه.
قال تعالى في محكم كتابه الحكيم بسورة الحجرات آية 92- 93 ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. إنها مسؤولية لا تزول مع تقدم السن، بل تتضاعف لأن التجربة تُحمل صاحبها وزرَ ما يعلم.
وحين يُمارس الكبير أفعاله المبطنة بالحقد، ويُظهر وجهاً آخر أمام المجتمع، فإنه لا يخدع الناس فحسب، بل يخدع نفسه.
لأن الصورة التي يحاول ترسيخها، صورة الهادئ الحكيم، لا تصمد أمام الحقائق، فسرعان ما تتساقط الأقنعة حين يُكشف الظلم.
لقد علمنا الدين أن الكبر في العمر يوازيه الأخلاق، وأن من بلغ هذا العمر ولم يتعلم التواضع، فقد عاش عمره جسداً، بلا روح.
قال تعالى في محكم كتابه الحكيم بسورة عمران آية 57 ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، هو تحذير صريح من أن الظلم، أياً كان مصدره مرفوض عند الله، حتى لو جاء من كبير ذي شأن.
إن من يستخدم نفوذه ومعارفه للإضرار بالآخرين إنما يقف في صف واحد مع من ذكرهم الله في قوله تعالى بسورة إبراهيم آية 42 تعالى ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾، فالله يرى ما تخفيه السرائر، ويُمهل ولا يهمل، ويمتحن الإنسان ليرى هل يثبت على العدل أم يميل به الهوى.
إن جوهر الحكمة ليس في جمال القول، بل صدق الموقف، والحكيم لا يحتاج إلى استعراض سلطته ليُثبت مكانته، بل يكفيه أن يكون صادقاً، في الحق، رحيماً في الخصومة، أميناً على الكلمة.
ومن المؤسف أن تتحول الشيخوخة في بعض النفوس إلى انتكاسة روحية، فيتراجع صاحبها عن قيمه القديمة، وينسى أن الموت أقرب مما يتصور، وأن آخر العمر لا يُحتمل فيه الخطأ المتعمد.
ما أقسى أن يُختم العمر الطويل بخطيئة الظلم، أن يُبدل الإنسان صورة الحكيم بالمتسلط، وأن يُلوث بياض الشيب بسواد النية.
حين يُدرك المرء أن ما تبقى من العمر أقل مما مضى، يفترض أن يزداد قرباً لله لا من الأهواء، وأن يُراجع نفسه في كل قولٍ أو تصرف قد يُثقل ميزانه. العمر الطويل لا قيمة له إن لم يُثمر رحمة وعدلاً، ولا بركة فيه إن لم يورث صدقاً وإصلاحاً.
الكبير حقاً هو من يسعى في أواخر عمره إلى تهدئة الخلاف، لا إلى تأجيجه، إلى جمع القلوب، لا إلى تمزيقها، إلى قول الكلمة التي تداوي، لا التي تجرح، فما نفع الوقار إذا غاب الخوف من الله، وما جدوى الاحترام الاجتماعي إن كان مبنياً على الرياء؟.
الحياة قصيرة، لكن الأثر يبقى، وما من إنسان إلا وسيُسأل عن سلطته، وعن أفعاله التي مست الآخرين.
قال تعالى في محكم كتابه الكريم بسورة الصافات آية24 ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾. إنها لحظة الحقيقة التي لا ينفع فيها جاه ولا نسب، بل عمل نقي خالص.
فلنتأمل جميعاً، ليس الكِبر شرفاً بحد ذاته، بل بما يتركه من عدلٍ ورحمة في الحياة الآخرين. ومن أراد أن يُختم له بخير، فليجعل آخر أيامه صدقاً مع الله و الناس، وليعلم أن الظلم في أواخر العمر ليس ذنباً عادياً بل خيانة للحكمة وللعمر نفسه.
فيا من بلغت الكِبَر، لا تفسد ما زرعته يدك، ولا تترك وراءك جرحاً في قلبٍ كان يوماً يراك قدوة.
لأن أجمل ما يُقال عن الإنسان بعد رحيله، كان حكيماً، وعدله لا ينسى.

