الكتاب

عناقُ مدينة

 

كيف لمدينة أن ترعى أحلامك وأن تشعل فيك جذوة الإلهام، تسير معك في طريق الأمنيات، تضع يدها بيدك، وإن تألمت فتحت ذراعيها لتحتضنك.

خمسةُ أعوامٍ طغت عليها ألفةً لم يسبق لي أن عشتها في أي مكان آخر.

عزيزي القارئ

إنها حكاية حقيقية،

حق لها أن أرويها وأكتبها، وأن أنظمها عقداً يتلألأ على عنق تلك المدينة.

لحظة!

هل قلت مدينة؟

أي مدينة!

في مساءً ما اجتمع (الوداع واللقاء) فعندما مضت بي الحياة حتى أسلك طريقاً جديداً، أومأت إلى الوراء، فإذا بطفولةٍ وصباً، وذكريات ٍوأمنيات، وأحلام ُ تلوح بيديها.

قلت!

ما هذه أيتها الحياة؟

أجابت: هي مدينة الماضي.

قلت: هل لي أن أتأملها؟

لم تمهلني كثيراً، كانت تستحث خطاي لأتبعها ولتقطع تحديقي الطويل.

حاولت أن أثنيها عن السير، تمسكت بها.

قلتُ مهلاً، إلى أين؟

لقد أخذتني في رحلة مليئة بالصمت، لا شيء سوا أسئلةُ بدون إجابات، وصراعُ بيني وبين مشاعري، خلّفَ كدماتٍ مؤلمة وغير مرئية.

كنت أتساءل عن تلك المدينة؟

وعن طموحاتي وآمالي، عن علاقاتي التي كانت تحيط بي،

عن عائلتي، عن شوارع الحي التي سرت فيها منذ نعومة أظافري، سيلُ من الأسئلة قطعهُ وصولي لهذه المدينة.

 

استقبلتني بثوبها الأخضر الزاهي، وقد تزينت هامتها بنجومٍ لامعة، أما عينيها كانت وضاءةً تشع حباً، لقد غمرتني عندما أطلت النظر فيهما.

لقد كان اللقاء الذي أزاح عن صدري ثقل الوداع، عانقتها عناقاً طويلاً حتى سرت روحها في روحي.

عندما تركتني الحياة فيها تملكني الفضول لاكتشاف خوافيها، أبهرتني تفاصيلها وأناقة مظهرها، لقد كانت تزاول عملها مع كل شروق في النبش داخلي بحثاً عن الشغف المدفون منذ الصغر.

فيها سُمعَ ذلك الصوت الذي اختبئ طويلاً بين ثنايا فكري.

وفيها اعتليت المنصة الخشبية التي أهدتني لقب (ملهمة)

فيها حققت حلم طفولتي.

مدينةُ سلطت ضوئها لأنمو، ولازالت تلازمني حتى انطفأ الإلهام الذي لم يكن قدره أن يضل مشعاً.

عندما لم تستطع قدماي حملي لكي أخرج منها، وأذهب لوالدي الذي كانت أحاديث الأطباء تدور حول رحيله القريب،

لم تنقذني عندما كادت أنفاسي تنقطع، لم تساندني حتى أقف، لقد

أبعدتني عنه، وحالت بيني وبينه حتى وصلت وقد فقد نطقه، وفقدت عذب حديثه إلى اليوم.

مرت أيام طويلة وشهور وأنا أنأى عنها، وأشيح بوجهي عن روعتها، لقد كان العتاب الذي بنى جسراً حال بيني وبينها.

وفي ليلة صيفية توجهت للبحر، ذلك المكان الذي طالما كان وجهتي. جلست على شاطئه الرملي، وأمواجه تتهادى تحت ظل القمر، لحظةُ صفاءٍ ومواجهة. تعلمت فيها أول درس بليغ يجهله الكثيرون!

يامن تقرأ حروفي..

ما نحن إلا نتيجة أفكارنا ومشاعرنا، إن الأماكن والأشخاص براءُ من أحزاننا ونوبات غضبنا. وإنه لمن تمام النضج أن نقف أمام الحياة بكل قوة ونتحمل مسؤولية ما نحن عليه.

وضعت يدي بيدها، وانطلقنا سوياً لرحلة جديدة كنت فيها ممتلئة بالإصرار، شغوفة بالتغيير، مندفعة لأتخطى حدود نفسي.

وما أن وقفت على قدماي حتى اجتاحني طوفان الحياة من جديد، وعمَ الخراب زوايا جسدي.

هنا سألتها! هل لك أن تقفي معي؟

أن تساندينني؟

العهد الذي بيننا أن نضل مضيئتان، مزهرتان، رغم تبدل الفصول.

لقد عاودت تلك المدينة مهمتها، تنبش مواضع الشغف وتشعل كوامن الإلهام المنطفىء.

إني الآن أكتب!

نعم أكتب.

لقد حققتُ حلم طفولتي الثاني.

مدينةُ أتأملها فتلهمني تفاصيلها، قديم مازال يزهو بثوبه الأنيق، وجديد يرتدي حلةُ بديعة.

أتأمل سحرُ شواطئها ورمالها التي تتباهى ببذخ، طرقاتها ذات الإنحناءات المثالية، وبتلات الورد التي تمتد كعقد ٍفاتن على أطرافها.

 

تلك المدينة أجدها مأوى انعزالي وهدوء وحدتي، ورفيقة نجاحي.

مدينتي الفاضلة (الجبيل الصناعية)

إنك جمالاً أزداد به جمالاً.

_______________

ليندا الشهري

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى