الكتابالمقالات

في العيد… تَجمع الأحباب وغاب الحضور

سامي آل مرزوق
سامي آل مرزوق

بقلم | سامي آل مرزوق 


ها هو العيد يعود ببهجته المعتادة، تزدحم البيوت بالزيارات، وتُفتح المجالس والديوانيات لأحاديث الشوق وتجديد الود، ويجتمع الأقارب والأصدقاء تحت سقف واحد بعد طول غياب، لكن شيئاً ما تغير في تفاصيل هذه اللقاءات، فرغم امتلاء الأماكن بالوجوه يخفت صوت الحوار، ويغيب الضحك الذي كان يملأ الأرجاء، حيث تتصدر الهواتف الذكية المشهد، تحتل الأيدي، وتسرق الأنظار، وتعلو إشعاراتها على أصوات المتحدثين، في لحظة يفترض أن يكون فيها التواصل مباشراً، يتحول الحضور إلى وجود جسدي فقط، بينما الأرواح تسبح في عوالم رقمية.

 مشهد يجمع بين القرب الظاهري والبُعد الحقيقي، بين امتلاء المكان وافتقاد المعنى، لقد بات الهاتف شريكاً دائماً في كل لحظة، حتى في أكثر المناسبات إنسانية وتقارباً، فهل نبالغ إن قلنا إن أعيادنا أصبحت أكثر صمتاً من ذي قبل، رغم كل هذا الضجيج الإلكتروني؟

في لحظة تبدو فيها الأسرة مجتمعة حول طاولة واحدة، تتوزع الأرواح على شاشات صغيرة، كل فردٍ غارق في عالمه الرقمي، صامت الحضور، مشتت الانتباه، الهاتف الذكي الذي وُلد في رحم التكنولوجيا الحديثة كوسيلة للتقريب، بات أداة فصل خفي، يُعيد تشكيل العلاقات بين البشر، ويُحدث شرخاً غير مرئي في نسيج الترابط الإنساني، حيث لم تعد العلاقات كما كانت، ولم يعد اللقاء بالضرورة تواصلاً.

الهاتف الذكي لا يُلام وحده، نحن من منحه هذا الامتياز، منذ أن اقتحم جيوبنا وأوقاتنا أصبح أكثر من مجرد وسيلة اتصال، صار رفيقاً دائماً، ومصدراً للراحة المؤقتة والهروب من الواقع. وبينما يمدنا بالمعلومات والتسلية، يسحب من تحت أقدامنا لحظات التفاعل الحي، ذلك النوع من التواصل الذي تُبنى عليه العلاقات المتينة، وتُنسج فيه الذكريات الدافئة.

تأمل مشهداً مألوفاً، جلسة عائلية هادئة، حديث بدأ للتو، وفجأة يهتز الهاتف، نظرة خاطفة تتحول إلى دقيقتين، ثم عشر، ثم صمت جماعي، الحديث انقطع، والنقطة فقدت، والمشاعر جُمدت، تلك اللحظة العابرة تحمل بين طياتها كثيراً من الإشارات، غياب الأولوية للعلاقات، وانتقال مركز الاهتمام من “من حولي” إلى ” من هو على الشاشة”.

المفارقة أن الإنسان لم يكن يوماً أكثر اتصالاً بالآخرين من الناحية التقنية، ولم يكن في الوقت ذاته أكثر شعوراً بالوحدة، هذا التناقض الصارخ يعكس خللاً في طبيعة استخدامنا للتكنولوجيا، لقد بتنا نبحث عن التقدير في عدد الإعجابات، ونقيس القرب بعدد الرسائل، ونستبدل الحوار الحقيقي بردود سطحية وأيقونات تعبيرية، هكذا تتآكل العلاقات ببطء، لا بصراخ، بل بصمت بارد.

وليس التأثير مقتصراً على الأسر فقط، بل يطال الصداقات، علاقات العمل، حتى العلاقة بالذات، فكم من شخص بات يفضل الانغماس في هاتفه على خوض حديث صادق مع نفسه؟ وكم من لحظة كان من الممكن أن تصبح ذكرى، لكنها ضاعت لأن الكاميرا كانت تلتقط الصورة، دون أن يلتقط القلب اللحظة؟

ومع هذا، لسنا أمام قدر لا يُرد، ما تزال الفرصة قائمة لإعادة تشكيل علاقتنا بالتقنية، لنُخضع الهاتف لا أن نخضع له، وهذا لا يتطلب انقطاعاً تاماً، بل وعيًا، أن نكون حاضرين حين نكون مع من نحب، أن نرفع أعيننا عن الشاشات حين يحدثنا طفل، أو يشكو إلينا أحد، أو يسألنا صديق، أن نقرر، بملء إرادتنا، أن بعض اللحظات تستحق أن تُعاش كاملة، لا عبر الشاشة.

كثير من الإصلاح يبدأ بإيماءة صغيرة، أن نطفئ هواتفنا خلال وجبة الغداء، أن نخصص ساعة بلا إشعارات، أن نعيد تعريف الأولويات.، فالعلاقات لا تُبنى بالعفوية فقط، بل بالنية والجهد والرغبة في الحضور الحقيقي، ولعل أجمل ما يمكن أن نهديه لمن نحب هو وجودنا الكامل، لا ظلنا الرقمي.

إن الهاتف الذكي، مهما بلغ ذكاؤه، لا يستطيع أن يمنح الآخر دفء نظرتك، أو حنان صوتك، أو صدق ضحكتك، تلك أشياء لا تُرسل عبر التطبيقات، ولا تُحمَل من المتجر، بل تُولد في لحظة صدق، وتعيش في القلب طويلًا.

فهل آن لنا أن نستعيد توازننا؟ أن نستخدم التقنية دون أن نُستهلك؟ أن نعود إلى الإنسان، قبل أن نذوب في الشاشة؟

 __________________________

سامي آل مرزوق 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى