الكتاب

كيف تكون مؤولاً للرؤيا .. بقلم: د . أحمد بن سعد بن غرم الغامدي

إن الرؤيا نافذة يفتحها الله لعباده لينظروا من خلالها إلى بشارات أو تحذيرات، وقد جاء الشرع بتثبيت حقيقتها وبيان قدرها، فهي ليست لعباً ولا عبثاً، بل هي جزء من النبوة، كما قال النبي ﷺ: «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة»، وقال أيضاً: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب»، وقال: «الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان». فدل ذلك على أن ما يراه النائم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: رؤيا صالحة من الله، وحلم من الشيطان يقصد به الترويع والإزعاج، وحديث نفس وهو انعكاس لما يشغله في حياته من هموم وأفكار. والرؤيا الصالحة بدورها نوعان: منها ما يبشر بخير ورزق وفتح ونصر، ومنها ما يحذر من شر أو فتنة أو معصية، فتكون تنبيهاً ورحمة قبل نزول البلاء.

والفرق بين الرؤيا وبين غيرها أن الرؤيا حق وصدق وبشارة أو نذارة، بينما الحلم المزعج أذى من الشيطان، وحديث النفس لا يتجاوز كونه خيالات من مشاغل الحياة. وقد نبّه العلماء إلى أن حال الرائي له أثر كبير في صدق الرؤيا، فأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثاً، كما قال ابن حجر، وأن المؤمن التقي أقرب الناس إلى الرؤيا الصادقة، ولهذا كان ابن سيرين يقول: الرؤيا تسرّ المؤمن ولا تغره. ومن أسباب صفاء الرؤيا الطهارة قبل النوم، والهدوء النفسي، والبعد عن القلق.

أما ما يُرى في المنام فلا يخرج عن كونه رموزاً لها دلالات مختلفة، فمنها ما جاء به الشرع صريحاً، كاللبن رمزاً للفطرة والعلم، والنور رمزاً للهداية، والظلمة رمزاً للفتنة، والسيف رمزاً للنصر أو الولد، والقمر والشمس رمزاً للوالدين أو الكبراء، والبحر رمزاً للعلم أو السلطان. ومنها ما هو مستقى من لسان العرب وأمثالهم وكناياتهم، فيحمل معنى يوافق ما اعتادته العرب في التعبير. ومنها ما يتصل بحال الرائي، فالتاجر قد يرى الميزان والدراهم، وطالب العلم قد يرى الكتب والأقلام، والمريض قد يرى ما يشير إلى دوائه وشفائه. ومنها ما يرتبط بالبيئة والعادات التي يعيش فيها الناس، فيفسر بحسب أعرافهم.

وقد يقع الرمز على ظاهره بلا تأويل، إذا كان صريحاً واضحاً، كرؤية النبي ﷺ، إذ قال: «من رآني فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي»، أو رؤية ما جاء النص بتأويله كاللبن بالدين والعلم. وقد يحتاج الرمز إلى صرفه عن ظاهره وتفسيره بضده، وذلك إذا كان في سياق غير محمود أو جاء بقرينة تخالف الظاهر، مثل الضحك الكثير الذي قد يؤول بالبكاء لقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}، أو البكاء الشديد بالصراخ الذي قد يؤول بالفرح، والموت الذي قد يدل على طول العمر أو التوبة، والظلام الذي قد يكون فتنة وقد يكون ستراً، والقيود التي قد تدل على هم وضيق وقد تدل أحياناً على الثبات في الدين.

أما المعبر، وهو مؤول الرؤيا، فلابد أن تتوفر فيه شروط عظيمة، فهو لا يخوض في غيب من تلقاء نفسه، بل يحتاج إلى علم بالكتاب والسنة حيث وردت الأمثلة الواضحة في قصة يوسف عليه السلام، ومعرفة بلغة العرب وأمثالها، وحكمة وورع وتثبت، فلا يجزم إلا بما ظهر له وإلا توقف وقال: الله أعلم. وقد قال الإمام مالك: أبالنبوة يُلعب؟! يقصد أن الرؤيا جليلة لا يصح التساهل فيها، وقال ابن قتيبة: لا يعبر الرؤيا إلا من جمع العلم والفهم والصدق والديانة. ولهذا جاء التوجيه النبوي: «لا تقصص رؤياك إلا على حبيب أو لبيب» أي لا تخبر بها إلا من يحب لك الخير أو من له عقل راجح وفهم.

أما وقت صدق الرؤيا، فقد ورد: «أصدق الرؤيا بالأسحار»، أي في آخر الليل حين تهدأ النفس ويصفو الجو، وقال النبي ﷺ: «الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعبر، فإذا عبرت وقعت»، أي أنها إذا فسرت على وجه صحيح تحققت كما أوّلت، ولهذا كان ابن حجر يقول: الغالب أن الرؤيا تقع على نحو ما تعبر.

وهكذا يتضح أن الرؤيا الصالحة هدية من الله، فيها بشارة أو تحذير، وأنها لا تُبنى عليها الأحكام الشرعية ولكنها تذكر وتبشر وتنذر. ومن أراد أن يكون مؤولاً للرؤيا فعليه أن يجمع بين العلم والورع والحكمة، وأن ينظر في حال الرائي والقرائن والرموز، وأن لا يتعجل في القول، فإنما هو باب من أبواب النبوة. وقد كان يوسف عليه السلام إمام هذا الباب، إذ عبر الرؤى في السجن فعرف شأن الرجلين، ثم عبر رؤيا الملك ففتح الله له بها أبواب التمكين. فالرؤيا الصالحة رحمة، وتعبيرها أمانة، والمؤمن إذا رآها فليحمد الله، وإن رأى ما يسوءه فليستعذ بالله ولا يحدث بها أحداً، وليعلم أن الأمر كله لله، وأن الغيب لا يعلمه إلا هو.

الكاتب: د . أحمد بن سعد بن غرم الغامدي

أستاذ جامعي متقاعد

دكتوراه في الشريعة الإسلامية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى