مدن الهيئة الملكية والتعليم… خارطة طريق نحو التميّز والتطوير .. بقلم: محمد حمدان الذبياني

بقلم: محمد حمدان الذبياني – كاتب سعودي
في عالمٍ تتسابق فيه المدن نحو الأرقام، تقف مدن الهيئة الملكية للجبيل وينبع كأنموذجٍ سعوديٍّ نادر، لا يتباهى بما ينتج، بل بما يتعلّم. فهاتان المدينتان لم تكتفيا بالصناعة والتنمية، بل نالتا اعتراف منظمة اليونسكو كمدينتي تعلّم، في شهادةٍ دوليةٍ تؤكد أن الهيئة الملكية استطاعت أن تجعل من التعليم نهجًا حياتيًا، لا برنامجًا مرحليًا.
حين يُذكر التعليم في المملكة، تُذكر الهيئة الملكية بوصفها التجربة التي جمعت بين الحلم والإدارة، بين الفكرة والتنفيذ، حتى أصبحت مدارسها نموذجًا وطنيًا في الإتقان ففي عام 2025، توّجت هذه المنظومة التعليمية إنجازها بحصول 22 مدرسة من مدارسها على مراكز التميز في التقويم المدرسي على مستوى المملكة، في تأكيدٍ جديدٍ على أن التميز في الهيئة الملكية ليس استثناءً بل سلوكٌ مؤسسيٌّ متجذرٌ في كل جوانبه .
فمنذ تأسيسها، أدركت الهيئة الملكية أن التنمية الحقيقية تبدأ من الإنسان، وأن بناء العقول لا يقل أهمية عن بناء المصانع. وحين أنشأت المدن الصناعية المتقدمة، أنشأت معها مدارس تتنفس الفكر نفسه ، مدارس تُدار بعقلٍ إداريٍّ منظم، وقلبٍ تربويٍّ مفعم بالرسالة، فهكذا تداخلت الفكرة بالصناعة، والتعليم بالإدارة، ليولد أنموذج سعوديٌّ فريدٌ يجعل من كل مدرسة مصنعًا للفكر والوعي.
لم تنظر الهيئة الملكية إلى التعليم كقطاع خدمي، بل كصناعةٍ للوعي والإتقان ، فوضعت له معايير صارمة كتلك التي تحكم منشآتها الصناعية ،تخطيط دقيق، وقياس أداء مستمر، وتطوير لا يتوقف، لكنها في الوقت ذاته أبقت على روح التعليم الحقيقية ، الرحمة، الفضول، الإبداع، والإيمان بأن كل طالبٍ مشروع وطنيٌّ يستحق الرعاية. ففي مدارس الهيئة الملكية، التعليم ليس وظيفة، بل رسالةٌ ينهض بها الجميع، فالمعلم قائد فكرٍ، والمدير مهندس بيئةٍ محفزة، والطالب شريكٌ في صناعة المعرفة، والمدرسة ليست جدرانًا وأجراسًا، بل بيئة تفكيرٍ تنبض بالحياة ،تلك الفلسفة هي ما جعلت من الجبيل وينبع مدنًا تتعلم كما تصنع، وتصنع كما تتعلم.
إن حصول الجبيل الصناعية وينبع الصناعية على لقب “مدن التعلّم” من اليونسكو لم يكن مصادفة، بل نتيجةً لتراكم فكرٍ وتخطيطٍ وثقافةٍ متكاملةٍ جعلت من التعلم قيمةً مجتمعيةً يعيشها الجميع ،من الطفل في الصف، إلى المهندس في المصنع، إلى القائد الإداري في الميدان ،هي مدنٌ ترى في التعلم استدامةً للحياة، لا مرحلةً من العمر.
إنها التجربة التي تثبت أن التميز لا يستوحى !، بل يُصنع حين تتوحد الرؤية والإدارة والرسالة، فيها يتحول التعليم إلى وعيٍ، والوعي إلى إبداعٍ، والإبداع إلى وطنٍ يتنفس الجودة بكل تفاصيلها، وفيها تُدار المدارس كما تُدار المصانع بالدقة والانضباط، لكنها تُضيء القلوب قبل الأرقام.
اليوم، حين تتصدر 22 مدرسة من مدارس الهيئة الملكية مشهد التميز التعليمي لعام 2025، فإنها لا تمثل إنجازًا إداريًا فقط ، بل تجسيدًا لفكرٍ وطنيٍّ متكاملٍ يمكن أن يُحتذى به في بناء منظومات تعليمية على مستوى المملكة والعالم، فهذه التجربة الغنية تُبرهن أن التعليم حين يُبنى على الفكرة والهوية والإتقان، فإنه يُغني عن كل النماذج المستوحاة ، ويصنع طريقه الخاص بملامح سعوديةٍ أصيلة.
إن مدن الهيئة الملكية اليوم لا تكتفي بأن تكون مدن صناعةٍ وابتكار، بل أصبحت مدن تعلّمٍ واستدامةٍ فكرية، تُقدّم درسًا في كيف يمكن أن تتحول المدينة إلى مدرسة،وأن يتحول المجتمع إلى فصولٍ متصلةٍ بالحلم والمعرفة ،هكذا تتقن هذه المدن التعلّم كما تتقن الصناعة، لأنها ببساطة تؤمن أن الاستثمار في العقل البشري هو حجر الزاوية في تقدم المدن وازدهارها.