الكتابالمقالات

مسح المآثر بعابرات العثائر: بين النقد المشروع والمسح الجائر لإنجازات الآخر .. بقلم: د. محمد بن أحمد المرواني

الكاتب : د. محمد بن أحمد المرواني

في المجتمعات الإنسانية، هناك أفراد أفنوا أعمارهم في بناء سمعتهم من خلال سنوات طويلة من العمل الدؤوب والإنجازات الفكرية والعلمية والاجتماعية. ومع ذلك، قد يتعثر أحدهم في لحظة، إما بسبب رأي مخالف للسائد أو زلة لسان أو تصرف غير موفق. وهنا يتجلى السؤال الجوهري: لماذا يتحول النقد إلى هجوم شرس؟ ولماذا يُمحى تاريخ الأشخاص لمجرد خطأ عابر؟ ولماذا تفقد العلاقات الإنسانية والعاطفية قيمتها بمجرد هفوة أو موقف؟

الإلغاء الفكري: من احترام الرأي إلى الإقصاء الكامل

إن النقد الموضوعي سمة المجتمعات الواعية، فهو يساعد على تصحيح الأخطاء وتعزيز النقاش البنّاء. لكن ما نشهده في العصر الحالي هو الانتقال من النقد المشروع إلى الإلغاء الجائر، حيث يصبح الشخص محاصَرًا باتهامات قاسية، ويتم اختزال مسيرته الطويلة في خطأ واحد، وكأن تاريخه بأكمله أصبح لا قيمة له.

الشيخ عثمان الخميس والهجوم الجارف: من داعية إلى “مذنب” في أعين البعض

أحد الأمثلة البارزة على هذه الظاهرة هو ما حدث اخيرا مع الشيخ عثمان الخميس، أحد أبرز العلماء والدعاة الوسطين الذين كرّسوا حياتهم للدفاع عن العقيدة الإسلامية والرد على التيارات الفكرية المختلفة. على مدى عقود، كان له دور كبير في نشر الفكر الإسلامي الوسطي المعتدل والرد على الشبهات و خاصة الفكر الصفوي المعادي للتاريخ العربي الاسلامي بغلاف طائفي ديني، وله جمهور واسع من المتابعين الذين يقدرون علمه واجتهاداته.

لكن في مقابلة تلفزيونية واحدة، عبّر عن رأيه بشأن حركة حماس وانتقد بعض توجهاتها، وهو رأي يدخل ضمن الاجتهاد الشخصي والفكري. غير أن هذا الرأي لم يُستقبل كوجهة نظر قابلة للنقاش، بل تحوّل إلى عاصفة من الهجوم والانتقادات العنيفة، بل وتم مسح كل تاريخه في لحظة واحدة.

هذه الظاهرة ليست جديدة، لكنها تتكرر بكثرة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يمكن لرأي واحد أن يحوّل شخصية مرموقة إلى هدف للهجوم الجماعي، حتى من أقرب الناس إليه.

لكن هل هذا من العدل؟ هل يُمكن الحكم على إنسان بناءً على موقف واحد دون النظر إلى عقود من الإنجاز والعطاء؟ ألا يحق للإنسان أن يكون له اجتهاداته الفكرية؟ وإن أخطأ، أليس من الأجدر أن يكون الحوار هو الوسيلة لتصحيح الخطأ بدلًا من التشهير والتشويه؟

الإلغاء العاطفي: حين تتحطم العلاقات بسبب خطأ واحد

إذا كانت هذه الظاهرة موجودة في المجال الفكري والمجتمعي، فإنها أكثر قسوة وتأثيرًا على المستوى العاطفي. فكثيرًا ما نرى علاقات متينة تنهار بسبب موقف واحد، أو سوء تعبير، أو زلة غير مقصودة.

في العلاقات الزوجية أو العاطفية، نجد أن بعض الأزواج يبنون حياة كاملة على أسس من الحب والتفاهم، لكن فجأة تنهار هذه الحياة لمجرد خلاف بسيط، أو كلمة قاسية قيلت في لحظة غضب، أو تصرف غير مقصود.

كم من زوجة تخلّى عنها زوجها لمجرد سوء فهم عابر؟ وكم من رجل وجد نفسه وحيدًا لأن شريكته لم تستطع تجاوز خطأ لم يكن مقصودًا؟ هذه المواقف تكرّس مفهوم “الحب المشروط”، حيث يصبح الحب مرهونًا بعدم الوقوع في الخطأ، وليس حبًا قائمًا على التسامح والتقدير.

عندما يصبح الخطأ سببًا للنهاية

إن أحد أسوأ ما قد يمر به الإنسان هو الشعور بأنه لم يكن يعني شيئًا لمن أحب، وأن كل ما قدمه و كل تفانيه في ارضاء الطرف الاخر و كل اللحظات الجميلة و الذكريات و الإخلاص و الحب يمكن محوه في لحظة واحدة. هذا الشعور بالمرارة والقهر قد يدفع الإنسان إلى العزلة أو فقدان الثقة في الحب والعلاقات.

هناك من عاشوا قصص حب استمرت لسنوات طويلة، ثم فجأة انتهت بسبب لحظة غضب أو انفعال، وكأن كل الذكريات الجميلة والمواقف الداعمة لم يكن لها أي قيمة. يحدث ذلك حين يصبح التركيز على الزلات أكبر من التركيز على جمال العلاقة في مجملها.

الحب الحقيقي ليس مجرد مشاعر عابرة، بل هو التزام وتقدير وتسامح. أن تحب شخصًا يعني أن تتقبله بعيوبه قبل محاسنه، وأن تمنحه الفرصة للتوضيح والاعتذار، لا أن تجعله يشعر بأن كل ما بينكما يمكن أن يُمحى بسبب هفوة واحدة.

نحن بحاجة إلى مراجعة قيمنا في النقد والعلاقات

في مجتمعاتنا، أصبحنا سريعِي الحكم على الآخرين، سواء في المجال الفكري أو العاطفي. علينا أن نتعلم كيف نفرّق بين النقد البناء والتجريح، وبين الخلاف الطبيعي والإقصاء، وبين الخطأ العابر والعيب الذي لا يُغتفر.

في المجال الفكري:

النقد حق، لكن الإلغاء ظلم. من حق أي شخص أن يعبر عن رأيه، ومن حق الآخرين أن يختلفوا معه، لكن دون أن يتحول الأمر إلى هجوم يهدف إلى تدميره تمامًا.

تاريخ الإنسان لا يُمحى بخطأ واحد. ما قدمه الشخص عبر حياته يجب أن يكون جزءًا من تقييمنا له، وليس مجرد موقف واحد يحدد مصيره.

في العلاقات العاطفية:

التسامح أساس الحب. لا يوجد إنسان كامل، ومن الطبيعي أن يقع الشريكان في الأخطاء. الأهم هو كيف يتم التعامل مع هذه الأخطاء، هل بالنقاش والتفاهم، أم بالإقصاء والقطيعة؟

لا تجعلوا الحب مشروطًا بعدم الخطأ. الحب الحقيقي هو القدرة على تجاوز الهفوات، وليس البحث عن المثالية غير الواقعية.

ختامًا: لنتعلم كيف ننتقد ونتسامح بحكمة

سواء كنا نتحدث عن عالم أو مفكر أو زوج أو صديق، علينا أن نتذكر أن القيم الحقيقية هي الاحترام، والتسامح، والقدرة على رؤية الصورة الكاملة بدلاً من التركيز على لحظة واحدة من التعثر.

إن المجتمعات الناضجة هي التي تتقبل الاختلاف، وتناقش الآراء دون تشويه، وتحافظ على العلاقات العاطفية والإنسانية دون أن تجعل الأخطاء الصغيرة سببًا في محو تاريخٍ كامل من الحب والاحترام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى