أَنْدَلُسُ الْمَشْرِقِ .. بقلم: سعدى الأنصاري

لم تكن مَدينة عَادِيَّةً أبدًا، مُنذُ أنْ وَطِئْتُ أرضَها والفُضولُ يَمْلَؤُنِي لاكتشافِ أغوارِها، والسَّيرِ في طرقاتِها، تلك التي قال عنها ياقوت الحموي: “وقالوا ليس في الأرض مَدينةٌ أنزه ولا أطيب ولا أحسن مستشرفًا من سمرقند” المدينةُ التي يزيدُ عُمرُها عن 2500 عام، فظلَّتْ عاصمةَ بلادِ ما وراء النهر مُدةَ خمسةِ قرونٍ، مُنذُ فتحها المسلمون في عهد معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- بقيادةِ المقدام سعيد بن عثمان بن عفان، فاستشهدَ على أرضها ابنُ عمِّ النبيِّ ﷺ، أقثم بن عباس -رضي الله عنه-، فأقام له أهلُ سمرقند مزارًا يُعرفُ بـ(شاه زندة)، أي: السلطان الحي؛ لأنَّ الشهداءَ أحياءٌ عند ربهم يُرزقونَ.
وعلى طريق الحرير تنكشفُ سمرقندُ بجمالها الأخاذِ، وسحرها الفاتن، ونسماتها الباردة، وتتركُكَ مندهشًا أمام حدائقها الغناء، وأبنيتها العجيبة، وقبابها الزرقاء، ومن هناك ينفتحُ سجلُّ التاريخِ، ويتراءى الماضي العتيقُ، وتملؤكَ الدهشةُ من كلِّ شيءٍ: الشوارع العتيقة، الأبنية العجيبة، الأزقة الضيقة، وتشعرُ وكأنكَ عبرتَ بوابةَ الزمنِ، ودخلتَ إلى صفحاتِ التاريخِ.
ومن أمام ساحة الريجستان تعصفُ بك الأسئلةُ الملحةُ وأنت ترى الأبنيةَ شامخةً تعلو بارتفاعها لتعانقَ السحابَ، وتضفي الهيبةَ على الأرجاء، تلك الأبنيةُ التي كانت يومًا مدارس تعليمية تستقبل الطلاب من كل مكان، وتعودُ لتسألَ نفسكَ كيف لهذه البناياتِ الزرق المكونة من حجرٍ وطوب أنْ تهزنا من الداخلِ وتشعرنا بفداحةِ الفقدِ ولوعةِ الحنينِ؟ تلك الزخارفُ العريقةُ والنقوشُ الأصيلةُ تعيدكَ للوراء دونَ استئذانٍ، وتعبرُ بكَ الزمن لترى تلك الساحةَ قديمًا وهي تضجُّ بطلابِ العلمِ وتزخرُ بالمعرفةِ والأدبِ، وتراها أمامَ ناظريكَ الآنَ ليستْ سوى مزارًا يقفُ أمامهُ السائح ليلتقطَ الصورَ ويسجلَ ذكرى العبورِ، فكلُّ ركنٍ فيها يحكي قصةً، وكلُّ حجرٍ يحملُ حكايةً، وصدقَ أمين معلوف حين قال: “سمرقند أجملُ وجهٍ أدارتهُ الأرضُ يومًا نحو الشمس”.
وربما تقودكَ الأقدامُ إلى سوقِ سمرقندَ فترى الناسَ يمرونَ في أشغالهم وتجوالهم، وتبقى أنتَ وحيدًا في وسطِ الزحامِ، تتأملُ تقاسيمَ المدينةِ والأشياءَ العتيقةَ المتناثرةَ من حولكَ ، وتقفُ أمامَ تلك الزخارفِ المنحوتةِ على المجسماتِ والأواني بكلِّ إبداعٍ ومهارةٍ، تتحسسها بيديكَ وأنتَ تدركُ أنها لم تكنْ مجردَ زخرفةٍ عابرةٍ، وإنما هويةٌ تشكلتْ عبر آلافِ السنينَ وتشبثتْ بها الأجيالُ كي لا تضمحلَّ مع الزمنِ، أو تموتَ مع النسيانِ، تأخذُ بعضَ القطعِ الأثريةِ التي أسرتك بروعتها وتغادرُ السوقَ بخطوات متأنية لترى تلك القبة بتفاصيلها العجيبةِ، وزخرفتها العريقةِ، القبةَ التي كانتْ يومًا أضخمَ قبةٍ في العالمِ الإسلاميِّ قبلَ 600 عامٍ ترتفعُ بكلِّ هيبةٍ على مسجدِ بيبي خانوم وعلى امتداده تظهر مئذنتانِ تعلو القبابَ وتتوهجُ فوق الغمام، ذلك المسجد العتيق الذي لقب بـ(جوهرة سمرقند)، وكانَ مثالًا للازدهارِ في التشييدِ والعمرانِ، وتهوي إليه القلوبُ من كلِّ مكانٍ.
وتغربُ شمسُ سمرقندَ وأنتَ مذهولًا ومندهشًا لترى نفسكَ أمامَ فناءٍ فسيحٍ تحيطهُ الأشجار ُمن كلِّ جانبٍ، وقبةٍ زرقاء بديعةٍ لم يتبقَ منها سوى الأطلالِ والأنقاضِ.
ولأنَّ الحياةَ لا تتوقفُ عندَ زمنٍ، تفتحُ عينيكَ ثانيةً لترى سمرقندَ في حلةِ المساءِ متلألئةً بثوبها البراقِ، وجمالها الفاتن، تعجُّ بالناسِ وتمتلئُ بالضجيجِ، تتراقصُ فيها النوافيرُ، وينعكسُ على ضوئها القمرُ، وتعبرُ بروحكَ من ضفةِ الماضي العتيقِ إلى الحاضرِ الواعدِ، تلتقطُ الصورَ وتسجلُ الذكرياتِ، تغادرُ وأنتَ تدركُ أنها ليستْ مجردَ أماكنَ صماءَ، بل صفحاتٌ من تاريخٍ عريقٍ، كانَ الإسلامُ فيه سيدًا، والحضارةُ فيه مرجعًا.
بقلم: سعدى الأنصاري