نشيد الطباشير .. وابتسامة الكوكب! .. بقلم: محمد حمدان الذبياني

بقلم: محمد حمدان الذبياني – كاتب سعودي
في زحام الأيام التي تتشابه ملامحها وتذوب تفاصيلها في روتين الحياة، يطلّ علينا ما يسمى بـ الأيام العالمية، كنجومٍ مضيئة في سماء متعبة، تذكّرنا بأن الحياة ليست سباقًا دائمًا نحو المجهول، بل محطات تأمل تُعيد الإنسان إلى جوهره الأول إنسانيته !
تلك الأيام ليست تواريخ على رزنامة الأمم المتحدة فحسب، بل نبضات ضمير كوني تستيقظ بين الحين والآخر لتقول للعالم: ما زلنا نحلم، وما زال فينا بقية من الرحمة والعقل والخيال.
في اليوم العالمي للمعلم، يقف العالم احترامًا لمن صاغ الوعي وحرّر العقول من العتمة ، ذلك اليوم لا يُكرَّس للاحتفاء بوظيفة، بل للاحتفاء بفكرة سامية مفادها أن المعرفة هي أول أشكال النجاة.
المعلم لا يُعلّم فحسب، بل يبني ما لا تُبنى به الحجارة، ويُشيّد في العقول قلاعًا من نورٍ تُصدّ الجهل والخوف والتقليد الأعمى ،إنه المهندس الأول لجودة الحياة، لأنه يبني الإنسان الذي تُبنى به الحضارات، وبه تُرسم ملامح الغد وتُحفظ كرامة الوعي الإنساني من التآكل.
وحين نحتفل بالمعلم، فإننا نحتفل بالحياة وقد استعادت معناها الأجمل ~ أن تُورث المعرفة قبل أن تُورث الممتلكات، وأن تُغرس القيم قبل أن تُبنى المدن.
ثم يأتي اليوم العالمي للابتسامة، فيبدو بسيطًا على الورق، لكنه في عمق رمزيته أكثر الأيام جدية على الإطلاق.
فالابتسامة في زمن القسوة ليست انفعالًا عابرًا، بل موقف وجودي، وشكل من أشكال المقاومة الهادئة ضد تعكر العالم.
أن تبتسم في وجه الحياة رغم ازدحام الأحزان هو إعلان شجاع أنك ما زلت تؤمن بالجمال، وأن في داخلك سلامًا لا تلوثه الفوضى من حولك.
الابتسامة، بهذا المعنى، ليست ترفًا عاطفيًا، بل مهارة بقاء، تُرمم ما تهشّم في أرواحنا، وتذكّرنا أن جودة الحياة لا تُقاس بما نملك، بل بما نشعر به ونحن نمنح الآخرين لحظة ضوء.
الأيام العالمية، بمجموعها، هي هندسة روحية للوعي الإنساني، تُعيد ترتيب الفوضى في ذواتنا وتضع القيم في مقدمة المشهد بعد أن تراجعت أمام زحام الماديات.
في اليوم العالمي للبيئة نتعلم التواضع أمام الأرض التي صبرَت على أخطائنا، وفي اليوم العالمي للصحة النفسية نتذكّر أن اتزان العقل لا يقلّ قداسة عن سلامة الجسد.
وفي اليوم العالمي للتطوع نتعلم أن العطاء هو الطريق الأجمل للخلود في ذاكرة الحياة.
إنها ليست احتفالات، بل اعترافات جماعية بالذنب الجميل: ذنب انشغالنا عن البديهي، وإهمالنا لما كان يجب أن يكون محور وجودنا.
كل يوم عالمي هو محاولة لتضميد فجوة بين الإنسان وقيمه، بين السلوك والمعنى، بين ما نقوله وما نفعله.
وكل مرة نحتفل فيها بيومٍ كهذا، نحن لا نُحيي حدثًا، بل نُحيي فينا حسًّا نقيًّا بدأ يخفت وسط ضجيج العالم.
تلك الأيام، إذا ما أُحسن استثمارها، يمكن أن تتحول من رموز إلى أدوات تغيير حقيقية.
فهي قادرة على تحسين جودة الحياة من خلال تحسين جودة الوعي؛ إذ تُثير الأسئلة، وتُوقظ الإحساس، وتُذكّرنا بما تجاهلناه طويلًا أن الإنسان لا يكتمل إلا حين يشعر بغيره، وأن السعادة لا تكتمل إلا حين تُشارك.
وفي النهاية، تبقى الأيام العالمية بمثابة نبضات ضوء في شريان الزمن، تُذكّرنا بأننا لسنا مجرد عابرين، بل شهودٌ على لحظة الوعي الكبرى التي تصنع الفرق بين العيش والحياة.
فلنحتفل بها لا لأنها موجودة في تقويمنا، بل لأنها تعيدنا إلى أصل الفكرة (أن نكون بشرًا بحق، نُعلّم بابتسامة، ونبتسم بمعرفة، ونعيش بوعي يليق بالكرامة الإنسانية).