الذكاء … حين يكون في جينات الأم وذاكرة الأب ! .. بقلم: محمد حمدان الذبياني

بقلم: محمد حمدان الذبياني – كاتب سعودي
ابتسمت وأنا أستمع إليها ،كانت عبارتها بسيطة في ظاهرها، لكنها حملت في طيّاتها سؤالًا عميقًا عن الحياة ، هل الذكاء وراثةٌ بيولوجية تُنقل من جيلٍ إلى جيل؟ أم أنه إحساسٌ يتشكّل في دفء الأمهات وملامح الآباء، وينمو بين العاطفة والتجربة؟
تقول بعض نظريات علم الوراثة إن الجينات المسؤولة عن القدرات العقلية تنتقل غالبًا من الأم، لكن الواقع الإنساني يقول إن ذكاء الأب لا يُقاس بالجينات، بل بالبصيرة والتجربة والمواقف،فالأم تمنح البذرة، والأب يهيّئ التربة، وبينهما ينبت العقل الذي يعرف متى يُفكّر ومتى يُصغي ،فالذكاء، كما أراه اليوم، ليس في حدة الفهم ولا في سرعة الجواب، بل في مرونة العقل واتزان القلب، هو أن تُوازن بين التحليل والشعور، بين المنطق والإحساس ،ولذلك فإن الأمهات يورّثن أولادهن الذكاء العاطفي، بينما يُورّث الآباء الذكاء العملي الذي يصقل التجربة.
كل بيتٍ ذكيٍّ هو بيتٌ يسمح بالسؤال،فالذكاء لا يولد في الجينات وحدها، بل في الأجواء التي تُشجّع الفضول وتحترم الخطأ وتُكافئ المحاولة،ففي بيتٍ كهذا، يتعلّم الطفل أن الفشل ليس نهاية الذكاء، بل بدايته، وأن الحوار أهم من الإجابة، وأن التفكير لا يحتاج إذنًا من أحد، فكم من أمٍّ بسيطةٍ لا تعرف علم الأحياء، لكنها ربّت عبقريًا لأنها علمته أن يستمع لقلبه قبل أن يجيب على سؤاله، وكم من أبٍ لم يقرأ في علم النفس، لكنه علّم أبناءه أن الحكمة لا تأتي من الكتب، بل من التجارب التي لا تُنسى.
الذكاء ليس رقمًا في اختبار، ولا معدلًا في شهادة، بل لغةٌ يتقنها الإنسان حين يتصالح مع ذاته،فالأذكى ليس من يحفظ أكثر، بل من يفهم نفسه والآخرين، ومن يملك شجاعة أن يقول “لا أعرف” حين يجهل، وأن يصمت حين يُدرك أن الصمت أبلغ من أي بيان، ولأننا نعيش في عصرٍ يتباهى بالذكاء الاصطناعي، أصبحت هذه الفلسفة أكثر ضرورة، فالآلة قد تتعلم كيف تُجيب، لكنها لن تتعلم كيف تُحبّ، ولا كيف تشعر بالارتباك الجميل حين تسألها ابنتك سؤالًا يهزّ المعنى في داخلك.
حين انتهى ذلك النقاش بين ابنتي وأمها، شعرت أني لا أعيش حوارًا علميًا بل حوار أجيالٍ عن جوهر الإنسان، جيلٌ يقرأ في الكتب عن الجينات، وجيلٌ يؤمن أن الذكاء في الحنان، وجيلٌ ثالث يولد الآن، لا يعرف الورق، ولا يتنفس إلا عبر الشاشات، عندها أدركت أن الذكاء الحقيقي ليس فيمن يجيب، بل فيمن يطرح الأسئلة الصحيحة، وأن الأم ستظلّ الجامعة الأولى، والمختبر الأصدق للعاطفة، وأن الأب سيبقى الضابط الإيقاعي الذي يمنح التجربة اتجاهها الصحيح.
ربما يحمل الجيل القادم ذكاءً صناعيًا يفوق كل ما عرفناه، لكنهم سيحتاجون دائمًا إلى ما لا يمكن برمجته ، الحنان ذلك الذكاء الفطري الذي لا يُقاس بالمعدل، بل يُقاس بقدرتنا على الفهم دون كلام، وعلى الحب دون شروط.
في النهاية، قد تكون الأم منحتهم الجين، والأب منحهم الاتجاه، لكنّ الحياة وحدها هي التي تمنحهم المعنى، وأنا أعود بذاكرتي إلى تلك اللحظة الصغيرة في بيتنا، ابنتي تتحدث بعلمٍ، وأمها تبتسم، وأنا أتأمل ! أدركت أن الذكاء ليس معادلةً بيولوجية، بل رحلة إنسانية تبدأ من أول سؤالٍ يطرحه طفل، ولا تنتهي حتى آخر نظرة فخرٍ في عيون أبٍ يرى أبناءه يواصلون الحكاية ، ولكن بنسخةٍ أفضل وأجمل.
دمتم بذكاء ..